المهم ألا نعتقد، نحن العرب، أنّ الصراع الدائر في العالم اليوم هو " صراع حضارات "، أو يمكن أن يكون كذلك، فننكفئ على ذواتنا، ونولي وجوهنا شطر الماضي، أكثر مما فعلنا، فنخرج من عصرنا وعالمنا ذاتيا، ونظل موضوعيا مادة لفعل الآخرين وموضوعا لإرادتهم وسمادا لتاريخهم. المهم أن نظل أوفياء لمبدأ التوحيد الذي قامت عليه حضارتنا وثقافتنا، ولمبدأ النقص والاحتياج الذي في جبلة البشر وفطرتهم، إيمانا منا بأنّ مبدأ النقص والاحتياج هو نفسه مبدأ التقدم.
كما أنّ الحوار مع الآخر يوفّر مكاسب كبيرة: فهو يجنّبنا تصادما محكوما بالخسارة، نتيجة اختلال المعادلات الاقتصادية والعسكرية والسياسية بين الطرفين العربي – الإسلامي والغرب، ويشكّل صمام أمان لمجتمعاتنا حين يجنّبها اندفاع العولمة إليها بشكل غير منضبط، كما يوفّر أجواء مناسبة للاحتفاظ بالذات وتقاليدها وشخصيتها المستقلة المتفتحة .
العرب والحوار في الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية
لعبت المجموعة العربية دورا بارزا خلال مناقشات موضوع حوار الثقافات داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث أكدت إيمان الدول العربية بالحوار ونبذها للصراع بين الثقافات. وعقب جريمة 11 سبتمبر/أيلول 2001 أقر وزراء خارجية الدول العربية المبادرة التى طرحها أمين عام الجامعة العربية لإقامة تجمع فكري عربي، لبلورة صيغة عملية ومحددة تشمل سبل مواجهة الحملة ضد العرب والمسلمين ،وتصحيح مصادر الخلل الفكرى والثقافى داخل العالم العربى وصورة العرب والمسلمين فى الخارج. وقد أعدت الأمانة العامة للجامعة العربية ورقة عمل تضمنت برنامج عمل يشرح تاريخ وإسهام الحضارة العربية - الإسلامية فى الحضارة الإنسانية، وتصحيح المفاهيم المغلوطة عن العرب والمسلمين من خلال حملات لصالح العرب فى الدول الغربية. وبالفعل اجتمع في مقر الأمانة العامة لجامعة الدول العربية مجموعة من المفكرين والمثقفين العرب يومي 26 و 27 نوفمبر/تشرين الثاني، وتدارست الأوضاع الدولية التي تدعو إلى النظر في العلاقة بين الحضارة العربية – الإسلامية من جهة، والحضارات الأخرى لاسيما الغربية منها من جهة أخرى، وما شاب هذه العلاقة من مظاهر سوء الفهم أو التشويه.
وأصدرت المجموعة " إعلان ملتقى المفكرين العرب "، وقد ورد في بنده التاسع " تأصيل وتعميم ثقافة السلام والعدالة التي تمنع حدوث الصراعات، وهو الأمر الذي يتطلب تسوية النزاعات الدولية والإقليمية القائمة لاسيما الصراع العربي – الإسرائيلي بطريقة عادلة ومتوازنة، وطبقا للشرعية الدولية، والإسهام في قيام نظام دولي جديد يقوم على احترام حقوق الإنسان في العالم دون تفرقة أو تمييز ".
وفي برنامج العمل الذي أقرته دعت إلى " تأسيس جائزة سنوية من جامعة الدول العربية، تمنح لمفكر أو مؤسسة تقدم إسهاما فكريا متميزا في مجال تعزيز حوار الحضارات، وإعادة تأسيس الخطاب العربي والإسلامي والتعريف بالحضارة العربية – الإسلامية ". كما دعت الدول العربية ومؤسسات المجتمع المدني للمبادرة بتشكيل لجان وطنية على المستوى العربـي " تعنى بقضايا الحوار الفكري والتجديد والتواصل الثقافي ". وقد جاء برنامج العمل استجابة لنداء الأمين العام للجامعة، الذي قال في كلمته الافتتاحية " أدعوكم لأن نناقش الخطوات والبرامج التي تمكّننا من التعامل مع التحديات التي تواجهنا، وما أرجوه هو ألا تكون اجتماعاتنا لمجرد النقاش وإنما للاتفاق على برنامج عملي قابل للتنفيذ السريع، حيث لا يتحمل الأمر أي وقت ضائع .. ".
ومن جانبها شكلت منظمة المؤتمر الاسلامى فريق خبراء حكوميين، قام بوضع برنامج تنفيذي، أكد على وحدة البشر ومسؤوليتهم المشتركة عن إعمار الأرض وإشاعة العدل والسلام فيها ودور كافة الشعوب والحكومات فى نشر روح التفاعل والتواصل والترويج لثقافة الحوار والتسامح، باعتبار ذلك البديل الوحيد للمواجهة والصراع وثقافة الانفراد واستبعاد الآخرين. ودعا برنامج العمل إلى عقد لقاءات بين المتخصصين فى الحكومات والمنظمات المختلفة لإشاعة الإيمان الحقيقى بالتعددية والعمل على اكتشاف ما هو مشترك بين الثقافات المختلفة، وإجراء حوار واسع حول قضايا العدل الاجتماعى ومكافحة الظلم.
وفي سياق هذا الاتجاه، لابد من وقفة عربية مع النفس لتحليل الموقف والعمل على الاستفادة من دروس زلزال 11 سبتمبر/أيلول، والتخطيط لما بعده، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ثم العمل على بناء الثقة والبدء بحوار جدي بنّاء يقوم على ركائز ثابتة أبرز عناوينها:
(1) – توحيد المواقف بين العرب من أجل وضع أسس المبادئ العامة لمثل هذا الحوار، وحل الخلافات والاختلافات حول أمور كثيرة تسيء للإسلام وتتيح في المجال للآخر لكي يرفض التعاون مع كيان واحد واضح المعالم.
(2) - نبذ التطرف والعنف واستخدام لغة العقل والمنطق في الحوار وتأكيد الاحترام للآخر وقوانينه ومبادئه.
(3) - إشراك المسيحيين العرب في الحوار مع الغرب، وتشجيعهم على لعب دور فاعل في هذا المجال، والتخلّي عن السلبية نتيجة لممارسات معروفة، ولا سيما بالنسبة للجاليات المقيمة في الغرب والولايات المتحدة الأمريكية بالذات، وهي فاعلة ومؤثرة.
(4) - التمهيد لهذا الحوار بحملة إعلامية وثقافية في الغرب تستخدم العقل والمنطق بأسلوب حضاري يشارك فيه أبناء الجاليات العربية والإسلامية بشكل فاعل، لأنهم أدرى بشعاب الغرب من المنظّرين والمثقفين المزعومين الذين يتصدرون موائد الحوار ومؤتمراته في ديارنا.
هذه الركائز وغيرها، مما لا يتسع لها المجال هنا، لا بد أن تنطلق بسرعة لمنع انتشار رقعة الشرخ الذي تسببت به عمليات نيويورك وواشنطن ومدريد ولندن، والحرب في أفغانستان، والإجرام الصهيوني في فلسطين، والاحتلال الأمريكي للعراق. ولعل الندوات المتعددة التي قامت بها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم حول حوار الثقافة العربية مع المناطق الثقافية المختلفة ( الإيبيرية، والأوروبية، والروسية .. )، وكذلك الندوة الدولية لحوار الثقافات والحضارات التي انعقدت في صنعاء خلال يومي 10 و 11 فيفري/شبـاط 2004 و " نداء صنعاء " الذي اعتبر " التعليم عنصر لا غنى عنه لتغذية الحوار وتحقيق استدامته "، وما أعلنته جامعة القاهرة مؤخرا، في 13 أوت/آب الماضي، عن بدء تنفيذ مشروعها لإنشاء مركز جديد يحمل اسم " مركز حوار الحضارات "، يتبنى بالدراسة والتحليل قضايا الشأن الثقافي وتصحيح صورة الثقافة العربية لدى الآخر. وما قامت به تونس منذ سنوات بإحداث كرسي " حوار الحضارات " في جامعة علوم الدين " الزيتونة "، لعل ذلك يعزز التوجه العربي نحو حوار ثقافي عميق مع الآخر.
ماذا يجب على العرب
المسألة أننا لم نحسن الخروج من عجزنا وقصورنا لكي نتحول إلى مشاركين في صناعة العالم بصورة غنية وخلاّقة. ولعل ما أعاقنا عن ذلك هو الحمولات الأيديولوجية والمسبقات الدوغمائية التي منعتنا من استثمار طاقاتنا على الخلق والتحوّل، بقدر ما حملتنا على أن لا نعترف بإنجازات الغرب والتعلّم منه، أو التي جعلتنا نتعامل مع هذه الإنجازات بعقلية تقليدية شعاراتية عقيمة وغير منتجة. لذلك يجب علينا:
(1) – الإقلاع عن رفض الحضارة الكونية: يعاني رفض مفهوم الحضارة الكونية من ثغرتين خطيرتين: أولاهما، عدم إدراك أنّ القيم هي، من حيث الأساس والمنطلق، كونية تستهدف الإنسان في عمومه، حتى ولو كانت خصوصية الخلفية ضرورة. وثانيتهما، أنّ مفهوم الكونية حاضر بقوة في كل الثقافات، ومن ثم فمن التناقض رفض الكونية ذاتها باسم الاستناد لثقافة متميزة تدافع عن كونية مغايرة. وهذا أحوج ما يحتاج إليه العرب : المساهمة في تنمية المجال التداولي وتوسيعه وإتقان لغته، خاصة ما يتعلق منه بـ " المجتمع المدني العالمي " ومنظماته غير الحكومية، لأنه الفاعل الجديد في العلاقات الدولية .
(2) – التوجه إلى الحداثة: هنا تبرز مهمة المثففين بالتوجه إلى الحداثة كهدف وككل متكامل، بما ينطوي عليه ذلك من تبنّي لسلطان العقل على النقل، والفصل بين الخطابين الديني والسياسي، والتخلّي عن الشعارات والأوهام، وفهم اتجاه الحقبة التاريخية المعاصرة، والدعوة إلى التحديث السياسي باعتباره المدخل الحقيقي لأي تحديث آخر، والدفاع عن المواطنة التي قوامها المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، والتمسك باحترام الحق في الاختلاف انطلاقا من نسبية المعتقدات والقناعات حسب قول المفكر الجزائري مالك بن نبي " رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأيهم خطأ يحتمل الصواب