تراث.. تراث، أقلام كثيرة تكتب عن التراث ، وألسنة عديدة تلهج بذكر التراث.. وأصحاب هذه الأقلام وتلك الألسنة، مابرحوا ينصّّبون أنفسهم في كل زمان ومكان.. محامين بارعين لهم دعوى واحدة ومرافعة واحدة.. هي : الدفاع عن كلمة التراث !!. ولئن كان الحديث عن التراث يأخذ بمجامع القلوب، والذود عن حياضه يهمُّ كل مخلص في هذه الأمة.. إلا أن هذا لايحول دون طرح سؤال كبير : إلى أي حد يمكن الاستفادة من التراث ؟ أو بمعنى آخر: ماهي آخر محطة يقف عندها قطار التراث الذي يمتطيه أولئك المدافعون ؟. لاشك أن التراث الحقيقي لهذه الأمة تراث مشبع بالدروس والحكم، ولاشك أن أي تصور عصري له سيدفع عجلة الرقي والتقدم إلى الأمام.. ولكن ؛ هل يقصد كل المدافعين هذا المعنى بالذات، أم أن الرؤية تختلف بين شخص وآخر ؟ الذين يتصورون أن التراث مجرد ذكرى عابرة للماضي البعيد، أو مرحلة زمنية عتيقة لها اتصال نظري فقط بالمراحل التي نعيشها اليوم .. والذين ينظرون إلى التراث على أنه رؤى وأفكار أكل الدهر عليها وشرب، أو مجرد قطعة أثرية نحب تداولها كما يحب الطفل اللعب بالنقود القديمة.. أناس ظلموا التراث، لم يعطوه المكانة التي يستحقها. فما فائدة التراث إن كان حديثاً يتلى وكلاماً يسمع ؟.. مافائدته إن لم نؤمن به وبأمجاده وطروحاته؟. مافائدته إن لم يكن وسيلة للنهوض من الكبوة، ومنبّهاً للقيام من نوع عميق ؟. مافائدته إن لم يكن بستاناً نأكل من خيراته كل يوم ، ومعيناً صافياً نعبّ من مائه صباح مساء ؟؟.. ليس التراث آثاراً جامدة موضوعة في متحف، وليس فولكلوراً شعبياً راقصاً يمتّع المشاهدين، ليس التراث عرض أزياء ملونة وثياب مزركشة مزخرفة، ليس لافتة مكتوبة بالخط العريض ترفع وتنزل عن الحاجة. لا.. فالتراث فعل لا قول، والتراث حياة جديدة.. أمل ساطع يتوهج في النفوس الطامحة.. حلم جميل نسعى إلى استرجاعه بكل قناعة وحماسة. * على كل حال.. يخطىء من يظن أن التراث هو كل مايمتّ إلى الماضي بصلة، ويخطىء من يتصور أن مفرزات الأمس بنوعيها السلبي والإيجابي ، تستحق الاحتضان، أو العض عليها بالنواجذ. فالمتتبع لحوادث التاريخ ، والممحّص لفقراته.. يعلم حق العلم أن ظروفاً قد أحاطت بهذه الأمة، دفعت أبناءها إلى ممارسات ذات آفاق معينة، نتجت عنها وقائع ومعطيات مختلفة، بعضها مقبول، وبعضها غير مقبول.. وكلا النوعين المقبول وغير المقبول، دخل التاريخ من بابه العريض. ولكن .. ليس كل مايدخل التاريخ يحمل بطاقة توصية إلى قلوبنا وعقولنا، وليس كل مايدخل التاريخ يرفع راية المنطق ويمسك بلواء الحكمة. نحن نقرأ التاريخ فعلاً.. نقرأ جميع فقراته، ونتابع كل أخباره ، ولكننا لانقول عن كل ماجرى : إنه الصواب بعينه. فهناك الأبيض الناصع، وهناك الأسود الحالك. هناك الطيب والخبيث ، هناك السمو والسقوط، هناك الالتزام والتلون، هناك النظام والفوضى، هناك الموقف الجماعي وهناك أيضاً التفرد الشخصي. أبداً.. لاتستحق كل فقرات التاريخ أن تكون تراثاً يتمسك به الإنسان. * نحن إذاً بحاجة إلى غربلة دقيقة لذلك القادم من الماضي.. قريباً كان أم بعيداً. نحن بحاجة إلى فصل حقيقي بين الزبد، وماينفع الناس. ليس الهام أن نطالب بالحفاظ على التراث، بل الهام أن نعرف ماهو التراث الذي علينا أن نحافظ عليه.. وفي التاريخ أشياء يجب أن تبتر، وإن لم تبتر فعليها أن تبقى للعبرة فقط.. وعندما نصل إلى الأصالة في كل شيء، نكون فعلاً قد وصلنا إلى التراث الحقيقي الذي يستحق أن نعض عليه بالنواجذ !!.