في مكان عشوائي علي أطراف مصر المحروسة اتفق عم سيد مع زوجته أم عصام علي الطلاق بعد عشرة زوجية امتدت ربع قرن من الزمن ، كلاهما دون الخمسين ولكن الفقر والبهدله تجعل المرء يبدو بلا عمر وكأنه عاش قرونا ، نشأ وترعرعا وعاشا وأنجبا في نفس المكان وهو مكان ينتمي إلي قاع الاحتياجات البشرية الأولية ، الهدف الأول لساكنيه كيف يمضي اليوم ؟
تشعر أم عصام بالرغم من كل شئ بالرضا وتقبل يدها حمدا لله أنها استطاعت تربية ولديها بأقل قدر ممكن من الخسائر ، الولد أخذ الدبلوم وعمل في مهن كثيرة عشوائية أيضا كان آخرها تركيب الدش والوصلة ، وفي أثناء ذلك تعرف بمن أغراه بالسفر للخارج ، سافر بشكل عشوائي عبر البحار وكاد يفقد حياته في مغامرته بعد أن قضي عشرين ساعة في الماء ، ولكنه أخيرا اتصل بها من اليونان وأخبرها أنه بخير ويعمل عند رجل طيب ومبسوط وفي أقرب فرصة سينزل مصر محملا بالهدايا وجيبه عامرا بالدولارات .
كان ذلك اليوم من أسعد أيامها ، ويوم السعد الآخر في حياتها يوم تزوجت ابنتها شيماء من كوافير كسيب من الأسكندرية وأخذها معه ، شيماء تزورها وتحضر لها ملابس وبطانية ولحم وتقول إنها سعيدة مع زوجها وتعلمت مهنته وصارت تساعده ، بل أنها تدريجيا صارت هي التي تدير المحل لأن المحجبات لا يريدون رجلا واكتفي هو بجزء بسيط اقتطعه من المحل ويعمل فيه حلاق رجالي .
لكنها ستنهي رحلة عذابها مع زوجها سيد الذي لا يستحق لقب الطيب ، ما زال مصرا علي إضاعة قروشه القليلة في المقهي ولا يريد الامتناع عن الشيشة التي وجعت قلبه وصدره ، يكفيها ذلك وستذهب لتعيش مع ابنتها في الاسكندرية تخدمها هي وعيالها وترتاح من الخناقات اليومية مع سيد ومن رطوبة الحجرة وشظف العيش .
قال لها زوجها بغلظة هيا سنذهب للمأذون فسبقته خارجة من الحجرة ، ركبا سويا الأتوبيس وكل منهما شاردا في عالمه ، عم سيد فراش قديم ويعرف الأصول كل الناس في المكتب الحكومي الذي يعمل به يحبونه، لابد من التخلص من هذه المرأة تحب المشاكل ومزعجة ، تريد أن تمنعه من الجلوس مع أصدقائه للعب الدومينو والترويح عن النفس .
دخلا مكتب المأذون أخبرهما مساعده أن الأستاذ في الطريق سيأتي بعد قليل ،جلسا في الانتظار ، لمح عم سيد حقيبة بجوار زوجته ، سألها ( ما هذه ؟) ردت ( حقيبة ملابسي ، فسوف انطلق من هنا إلي محطة القطار مباشرة ) ثم أكملت وهي تشعر بعضة الجوع فلم يكن أمامهما فرصة لتناول الطعام منذ عاد أمس متأخرا وتشاجرا ( اسمع الخبز في كيس فوق النملية ، وعلي البوتاجاز حلة فيها بطاطس ولحم ضاني
يمكنك تسخينها لتأكل عندما تعود ، والملابس منشورة فوق السطح )
رد بأسي حقيقي ( لا أعرف أسخن طبيخ ولا ألم غسيل ، ولا أعرف حتي كيف سأطيق الحجرة بدونك )
قالت (أنا أيضا لا أعرف كيف سأذهب للبنت ولا ماذا أقول لها وهل سيتحملني زوجها ؟ )
قال لها ( أنت السبب يا جميلة ، كل يوم زن ونقار ، وطلقني طلقني )
قالت وفي عينيها نظرة عتاب حانية ( مش من عمايلك ؟)
نظر إليها معجبا ، لقد عاد البريق الآسر لعينيها الجميلتين ، لقد تخلت أخيرا عن تلك النظرة اللائمة الخابية التي تستفزه بها.
قال ( لن أفعل بعد اليوم ما يغضبك ، أنت محقة في كل ما تنصحينني به ، تحرم عليه القهوة والدخان ، عودي معي يا جميلة لا أحد يحتاجك في هذه الدنيا مثلي )
سمعت نبرة صوته المحببة التي افتقدتها طويلا ، نبرة بها حنان الدنيا تشعرها أنها في حماية أفضل رجل في العالم ،رجلها ،ابتسمت ومدت إليه يدها هيا نعود .
أخرج من جيبه ورقة فئة خمسين جنيها ، قال لها( انظري عيدية البيه بتاعنا ، سوف أعزمك الآن في أحسن مطعم )جاء الرجل من الداخل عندما رآهما يخرجان ( علي فين ، الأستاذ علي وصول ) قال عم سيد ( لا خلاص متشكرين ) وانطلقا و قلب كل منهما لا يتسع لموجة الحب العارمة التي اجتاحته .