بداية من الأهمية بمكان تحرير المصطلح، ذلك أنّ هناك خطأ شائعا في الحديث عـــن " حوار الحضارات " وكأننا نعيش في ظل حضارات متعددة، مع أنّ الواقع يقول أننا نعيش، بتفاوت بين عالمي الشمال والجنوب، في ظل حضارة واحدة تقوم على أسس الثورة العلمية والتكنولوجية الثالثة، خاصة ثورة الاتصال والمعلومات، وعلى ذلك من الأفضل أن نتحدث عن حضارة واحدة وثقافات متعددة. وفي هذا السياق، أصبحت الدعوة لحوار الثقافات تمثل القاسم المشترك بين الكثير من المثقفين ورجال السياسة والدين والمفكرين، ليس فقط في العالمين العربي والإسلامي فحسب بل في الغرب أيضا.
ومما لاشك فيه أنّ أحداث الإرهاب التي شهدها العالم طرحت تحديا حقيقيا أمام كافة المبادرات الخاصة بحوار الثقافات لإثبات مصداقيتها وتأثيرها المتعدد الأبعاد، سواء على دوائر صنع القرار أو وسائل الإعلام أو المراكز الأكاديمية والبحثية أو منظمات المجتمع المدني، فهذا التأثير وتلك المصداقية هما المعيار والحكم على صلة هذه المبادرات بالواقع المعاش والقدرة على إحداث تغيير إيجابى فى مناهج التفكير والسلوك والتعامل مع الآخر وتوصيفه بشكل بنّاء، والتفاعل معه بديلا عن الانعزال عنه أو التصرف من منطلق أنّ هذا الآخر هو العدو أو الخطر أو التهديد، وبدون تجاهل مرجعية قيم العدل والإنصاف والمساواة والاحترام المتبادل، وعدم الادعاء باحتكار الحقيقة.
ويتزامن هذا الاتجاه مع التحولات العميقة التي يشهدها العالم على صعيد العلاقات الدولية بصورة عامة، وعلاقات شمال - جنوب بصورة خاصة، وعلى إثر ظهور اتجاهات جديدة، في مقدمتها المنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني في العالم، تمثل قوة ضاغطة على مراكز اتخاذ القرار على مستوى السياسة الدولية، للدفع نحو ما يمكن أن نصفه بأنسنة القرارات الدولية كافة. فعلى عكس ما تزعم الأصوليات من كل حدب وصوب فإنّ مستقبل البشرية ليس للصدام الحضاري وإنما للتفاعل والحوار والاستفادة المتبادلة.
مكوّنات متغيّرة للثقافة وحوار الثقافات في عالم متغيّر
من المؤكد أنّ الثقافات لا تتطور جميعها بالإيقاع نفسه، فهي تشهد مراحل ذروة ومراحل هبوط، وفترات إشعاع وتوسّع، كما أوقات صمت وانكفاء. ولكن من المؤكد أيضا أنّ العالم غني بثقافات القارات الخمس، ومضطر إلى صياغة قواعد لتعايشها وانسجامها، ويحمل في ذاته القدرة على مواجهة تحديات تاريخه الكبرى . مما يفترض البحث عن أرضية مشتركة بين التقاليد المكوّنة للحضارة الإنسانية التي تتمثل في:
(أ)- الاعتراف المتبادَل بالتقاليد المميّزة للثقافات المتعددة.
(ب)- تجاوز نقطة الاعتراف المتبادَل والاتجاه نحو تقبّل التفاعل بين الهويات الثقافية المتعددة والتي تسمح بالتعايش بين مختلف التنوّعات الثقافية.
والحال أنّ مختلف المنظومات الثقافية العالمية تتحسس الحاجة الموضوعية إلى صياغة وتقنين مقتضايات الكونية، حتى ولو اختلفت جزئيا في ضبط معايير ومحددات هذه الكونية، فلقد أصبح لعالم اليوم أطر مرجعية كونية لا يكاد يخرج عليها كيان سياسي أو ثقافي، أبرزها الوثيقة النظرية الاخلاقية العامة التي تؤسس النظام الدولي، أي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والنظام المؤسسي الدولي المتمثل في هيئة الامم المتحدة، والأطر التشريعية المتعددة المناحي والأوجه (الاتفاقات والقوانين الدولية الملزمة التي تزايدت مجالاتها بصفة كثيفة في الآونة الأخيرة).
ولعل منبع تجدد الإشكال راجع إلى تصادم حقيقتين بارزتين: أولاهما، الالتزام الجماعي بمقتضيات الكونية الناتجة عن مسار توحد البشرية واقتران مصائر أبنائها عبر آليتي توحد الأنظمة الاتصالية وتوحد الاقتصاد العالمي. وثانيتهما، الإقرار النظري والمعياري بحق الثقافات في الاختلاف والتمايز وتماثلها من حيث القيمة والمشروعية من جهة أخرى. والواقع أنّ مكمن الإشكال عائد إلى صعوبة صياغة تأليفية لهاتين الحقيقتين، اللتين لا اعتراض عليهما من حيث المبدأ.
وهكذا، بدلا من المزاعم الخرقاء عن اختلاف الحضارات المعاصرة وصراعاتها المزعومة ينبغي التحرك نحو الاهداف الطبيعية التي يتحرك بها الواقع، والكشف عن المضامين الأخلاقية الكامنة في أغلب ثقافات الجنس البشري، والتي تنشد حرية الإنسان وانتصاره المتلاحق على اختناقات الضرورات المختلفة. فمن حكمة مصر والشرق الأدنى القديم، الأخلاقية والروحية والعلمية، تغذت العقلية اليونانية لتفرز نظاما نظريا متكاملا للحكمة الفلسفية استطاعت مصر البطلمية، ثم الرومانية من خلال مدرسة الإسكندرية، إعادة توظيفه عبر الأفلوطينية والأفلاطونية الجديدة لمصلحة الإيمان المسيحي، في إطار سعيها الرائد إلى التوفيق بينه وبين العقل. كما استطاعت الحضارة العربية - الإسلامية استيعابه وإخضاعه لإلهام العقيدة الإسلامية التوحيدية. حتي كان العصر الحديث الذي شهد الحوار بين العقلية الأوروبية وبين التراث العلمي والفكري للعقل العربي، سواء ما يمثل ماهيته أو ما يمثل قراءته للتراث اليوناني. أي أنّ كلتا الحضارتين الكبيرتين حاورت الأخرى فعلا عبر الدورة التاريخية المعروفة، وبحسب قدرة كل منهما على صوغ نموذجها الجذاب أو الفاعل الذي يدعو الأخرى إلى أن تحتذيه أو تقتبس منه على قدر حاجتها أو قدرتها.
العرب وحوار الثقافات
السؤال الجوهري والمحوري الذي يطرح نفسه في العالم العربي، هو: كيف نحاور؟ وحول ماذا ؟ ومع من ؟ وهل يمكن الحوار مع الآخر أصلا إذا كان الحوار في أغلب الأقطار العربية مكبوتا ومقموعا ؟ كيف يمكن لنا أن نضبط آلية الحوار الثقافي والتفاعل الحضاري مع العصر ؟ وأين يقف عالمنا العربي من التغيّرات العميقة التي شهدها العالم ؟ وهل فهم منطق المرحلة الجديدة بمقوّماتها ومعالمها ومنطقها النوعي الجديد ؟ وهل استجاب لمنطق المرحلة على الأصعدة الفكرية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الشاملة ؟ وما مدى الاستجابة للمرحلة على صعيد التخطيط والتنظيم والممارسة ؟ .
وبداية، يجدر بنا أن نحاول تحديد موقع الثقافة العربية في عالم المتغيّرات الكبرى منذ تسعينيات القرن الماضي، للتعرف علي أوجه قصورنا ومناطق إخفاقنا. ولا نظن أنّ أحدا يستطيع أن تصل مكابرته إلى إنكار ذلك القصور والإخفاق. فقد بدأنا القرن الحادي والعشرين، أي بعد قرن ونصف من بداية النهضة العربية الحديثة، ونحن أبعد ما نكون عن حلم التحديث الحقيقي. إذ عانينا انشطارا مستمرا بين القديم والجديد، بين الأصالة والمعاصرة.
خطأ نظرية الصراع بين الإسلام والغرب
تعاني أطروحة " الصراع الثقافي والحضاري بين مجتمعات الإسلام والغرب " من نقص حاد في إدراك الجدليات الثقافية الحاكمة لمجتمعات العالم المعاصر، وفي إدراك علاقات التمايز داخل كل مجال ثقافي - اجتماعي. وتنطوي هذه الفرضية على ثلاثة معطيات فكرية تستدعي نقدا يكشف عقمها: إنها تنطوي على ادعاء لا تاريخي، وعلى وهم أيديولوجي، وعلى قراءة انتقائية لا موضوعية. ففي القول بوجود ماهية إسلامية مطلقة حاكمة للمجتمعات التي تدين شعوبها بعقيدة الإسلام، ماهية عصية على التبدل والتكيّف والتطور، وغير قابلة للتعين إلا بما هي جوهر مغلق واحد أحد، لا يأتي عليه مكان أو زمان، ولا يتسع لأي نوع من التعدد فيه، حتى وإن كان من جنس التعدد في الوحدة . إنّ هذا الادعاء لا أساس له في واقع جدلية التاريخ وتطوره.
وأما الوهم الأيديولوجي، ففي افتراض الغرب كيانا واحدا متجانسا لا تمايز فيه، ومطلقا مجردا لا تعدد أو نسبية في نسيجه. وهو غرب الديمقراطية وحقوق الإنسان التي حفظ لمواطنيه آدميتهم وكرامتهم ، ومكّنهم من الحقوق والأدوات والمؤسسات التي توفر لهم إمكان التعبير عن آرائهم وإمكان تنظيم وجودهم وتقرير مصيرهم وإدارة شؤونهم بأنفسهم.
وأخيرا، فإنّ القراءة الانتقائية غير الموضوعية تتجلى أكثر ما تتجلى في الإصرار على النظر إلى العلاقة بين الإسلام والغرب بوصفها علاقة صدام وصراع فحسب، والتشديد على طبيعتها الانتباذية دون سوى ذلك من الصور والحالات التي سبق وشهدها تاريخ تلك العلاقة بين الطرفين في العصر الحديث على الأقل، وخاصة منها علاقة الحوار والتفاهم.
إنّ الغرب الحديث لا يمكن اختزاله في مشهد جيوش الاحتلال، بل هو كذلك مدونة الحقوق المدنية وحريات الإنسان على نحو ما بشرت به أدبيات الأنواريين، وجلجلت بها كل من الثورتين الفرنسية والأمريكية وتضمنها لاحقا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهي قيم اكتسبت بعدا كونيا وتبنتها قطاعات واسعة من الشعوب والنخب الفكرية والسياسية في مختلف مناحي المعمورة الكونية، بما في ذلك في أرضنا العربية والإسلامية الواسعة .
امتلاك العرب لخبرة كبيرة في مجال الحوار
يمتلك العرب خبرة كبيرة في موضوع " حوار الثقافات "، فالإسلام في ثقافته، وبالتالي، في حضارته الكلاسيكية كان مدرسة في الانفتاح. إن الحضارة العربية ـ الاسلامية شارك في صنعها الهنود والفرس والمسيحيون واليونان، وقد تشكلت على قاعدة توليف حضاري معقدة لكن مبدعة، حيث صهرت حضارات الهند والصين وفارس إلى حد يصعب معه وصف التأثير والتأثر في مجالات " جيو – حضارية " كهذه.
كما بلور التراث العربي – الإسلامي، في العصر الوسيط، صورة متخيلة عن العالم والحضارات والأمم الأخرى، ولم يكن المعيار الديني هو المعيار الوحيد الذي حكمت به الثقافة العربية على الآخر، فقد اعتمدت على معيار الحضارة والعمران، ونظرت إلى كل أمة وجماعة بمدى مساهمتها في العمران، وما تختص به في أحد أبوابه، وهو ما أفضى إلى نوع من النسبية الثقافية، تجلت بشكل واضح عند الجاحظ والتوحيدي وابن خلدون، إذ خصوا كل أمة وحضارة بدور مميّز في مجال العمران.
متطلبات وشروط الحوار الناجح
ثمَّة أهمية كبرى لصياغة استراتيجية عربية للحوار مع الثقافات الأخرى، مما يستدعي القيام بدور نقدي مزدوج :
(1)- الاستيعاب النقدي لفكر الآخر، بمعنى المتابعة الدقيقة للحوار الفكري العميق الذي يدور في مراكز التفكير العالمية، وفي العواصم الثقافية الكبرى.
(2)- النقد الذاتي للأنا العربية، باعتبار أنّ ذلك هو الخطوة الأولى في أي حوار جاد.